فصل: قال أبو السعود في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: التقدير فانتصر لي منهم بأن تهلكهم.
وقيل: فانتصر لنفسك، إذ كذبوا رسولك فوقعت الإجابة.
وللمتصوفة قول في {مغلوب فانتصر} حكاه ابن عطية، يوقف عليه في كتابه.
{ففتحنا}: بيان أن الله تعالى انتصر منهم وانتقم.
قيل: ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين، فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم.
{أبواب السماء بماء}: جعل الماء كأنه آلة يفتح بها، كما تقول: فتحت الباب بالمفتاح، وكأن الماء جاء وفتح الباب، فجعل المقصود، وهو الماء، مقدّمًا في الوجود على فتح الباب المغلق.
ويجوز أن تكون الباء للحال، أي ملتبسة بماء منهمر.
وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والأعرج ويعقوب: {ففتحنا} مشدّدًا؛ والجمهور: مخففًا، {أبواب السماء}، هذا عند الجمهور مجاز وتشبيه، لأن المطر كثره كأنه نازل من أبواب، كما تقول: فتحت أبواب القرب، وجرت مزاريب السماء.
وقال عليّ، وتبعه النقاش: يعني بالأبواب المجرة، وهي سرع السماء كسرع العيبة.
وذهب قوم إلى أنها حقيقة فتحت في السماء أبواب جرى منها الماء، ومثله مروي عن ابن عباس، قال: أبواب السماء فتحت من غير سحاب، لم تغلق أربعين يومًا.
قال السدي: {منهمر}: أي كثير.
قال الشاعر:
أعينيّ جودا بالدموع الهوامر ** على خير باد من معد وحاضر

وقرأ الجمهور: {وفجرنا} بتشديد الجيم؛ وعبد الله وأصحابه وأبو حيوة والمفضل عن عاصم: بالتخفيف؛ والمشهور أن العين لفظ مشترك.
والظاهر أنها حقيقة في العين الباصرة، مجاز في غيرها، وهو في غير الماء مجاز مشهور، غالب وانتصب عيونًا على التمييز، جعلت الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، وهو أبلغ من: وفجرنا عيون الأرض، ومن منع مجيء التمييز من المفعول أعربه حالًا، ويكون حالًا مقدرة، وأعربه بعضهم مفعولًا ثانيًا، كأنه ضمن {وفجرنا}: صيرنا بالتفجير، {الأرض عيونًا}.
وقيل: وفجرت أربعين يومًا.
وقرأ الجمهور: {فالتقى الماء}، وهو اسم جنس، والمعنى: ماء السماء وماء الأرض.
وقرأ عليّ والحسن ومحمد بن كعب والجحدري: {الماءان}.
وقرأ الحسن أيضًا: {الماوان}.
وقال الزمخشري: وقرأ الحسن {ماوان}، بقلب الهمزة واوًا، كقولهم: علباوان. انتهى.
شبه الهمزة التي هي بدل من هاء في الماء بهمزة الإلحاق في علبا.
وعن الحسن أيضًا: {المايان}، بقلب الهمزة ياء، وفي كلتا القراءتين شذوذ.
{على أمر قد قدر}: أي على حالة ورتبة قد فصلت في الأزل.
وقيل: على مقادير قد رتبت وقت التقائه، فروى أن ماء الأرض كان على سبعة عشر ذراعًا، ونزل ماء السماء على تكملة أربعين ذراعًا.
وقيل: كان ماء الأرض أكثر.
وقيل: كانا متساويين، نزل من السماء قدر ما خرج من الأرض.
وقيل: {على أمر قد قدر}: في اللوح أنه يكون، وهو هلاك قوم نوح عليه السلام بالطوفان، وهذا هو الراجح، لأن كل قصة ذكرت بعد هذه القصة ذكر الله هلاك مكذبي الرسل فيها، فيكون هذا كناية عن هلاك قوم نوح، ولذلك ذكر نجاة نوح بعدها في قوله: {وحملناه على ذات ألواح ودسر}.
وقرأ أبو حيوة: {قدر} بشد الدال؛ والجمهور؛ بتخفيفها، وذات الألواح والدسر هي السفينة التي أنشأها نوح عليها السلام.
ويفهم من هذين الوصفين أنها السفينة، فهي صفة تقوم مقام الموصوف وتنوب عنه، ونحوه: قميصي مسرودة من حديد، أي درع، وهذا من فصيح الكلام وبديعه.
ولو جمعت بين الصفة والموصوف فيه، لم يكن بالفصيح والدسر المسامير، قاله الجمهور.
وقال الحسن وابن عباس: مقاديم السفينة لأنها تدسر الماء، أي تدفعه، والدسر: الدفع.
وقال مجاهد وغيره: بطن السفينة.
وعنه أيضًا: عوارض السفينة.
وعنه أيضًا: أضلاع السفينة، تجري في ذلك الماء المتلقي بحفظ منا وكلاءة، بحيث نجا من كان فيها وغرق غيرهم.
وقال مقاتل بن سليمان: {بأعيننا}: بوحينا.
وقيل: بأمرنا.
وقيل: بأوليائنا.
يقال: فلان عين من عيون الله تعالى: أي ولي من أوليائه.
وقيل: بأعين الماء التي أنبعناها.
وقيل: من حفظها من الملائكة سماهم أعينًا.
وقرأ زيد بن علي وأبو السمال: {بأعينا} بالإدغام؛ والجمهور: بالفك.
{جزاء}: أي مجازاة، {لمن كان كفر}: أي لنوح عليه السلام، إذ كان نعمة أهداها الله إلى قومه لأن يؤمنوا فكفروها، المعنى: أنه حمله في السفينة ومن آمن معه كان جزاء له على صبره على قومه المئين من السنين، ومن كناية عن نوح.
قيل: يعني بمن كفر لمن جحدت نبوته.
وقال ابن عباس ومجاهد: من يراد به الله تعالى، كأنه قال: غضبًا وانتصارًا لله تعالى، أي انتصر لنفسه، فأغرق الكافرين، وأنجى المؤمنين، وهذان التأويلان في من على قراءة الجمهور.
{كفر}: مبنيًا للمفعول.
وقرأ مسلمة بن محارب: بإسكان الفاء خفف فعل، كما قال الشاعر:
لو عصر منه البان والمسك انعصر

يريد: لو عصر.
وقرأ زيد بن رومان وقتادة وعيسى: {كفر} مبنيًا للفاعل، فمن يراد به قوم نوح: أي إن ما نشأ من تفتيح أبواب السماء بالماء، وتفجر عيون الأرض، والتقاء الماءين من غرق قوم نوح عليه الصلاة والسلام، كان جزاء لهم على كفرهم.
وكفر: خبر لكان، وفي ذلك دليل على وقوع الماضي بغير قد خبرًا لكان، وهو مذهب البصريين وغيرهم.
يقول: لابد من قد ظاهرة أو مقدرة، على أنه يجوز إن كان هنا زائدة، أي لمن كفر، والضمير في {تركناها} عائد على الفعلة والقصة.
وقال قتادة والنقاش وغيرهما: عائد على السفينة، وأنه تعالى أبقى خشبها حتى رآه بعض أوائل هذه الأمة.
وقال قتادة: وكم من سفينة بعدها صارت رمادًا! وقرأ الجمهور: {مدكر}، بإدغام الذال في الدال المبدلة من تاء الافتعال؛ وقتادة: فيما نقل ابن عطية بالذال، أدغمه بعد قلب الثاني إلى الأول.
وقال صاحب كتاب اللوامح قتادة: فهل من مذكر، فاعل من التذكير، أي من يذكر نفسه أو غيره بما مضى من القصص. انتهى.
وقرئ: {مدتكر} على الأصل.
{فكيف كان عذابي ونذر}: تهويل لما حل بقوم نوح من العذاب وإعظام له، إذ قد استأصل جميعهم وقطع دابرهم، فلم ينسل منهم أحد؛ أي كيف كان عاقبة إنذاري؟ والنذر: جمع نذير وهو الإنذار، وفيه توقيف لقريش على ما حل بالمكذبين أمثالهم.
وكان، إن كانت ناقصة، كانت كيف في موضع خبر كان؛ وإن كانت تامة، كانت في موضع نصب على الحال.
والاستفهام هنا لا يراد به حقيقته، بل المعنى على التذكير بما حل بهم.
{ولقد يسرنا}: أي سهلنا، {القرآن للذكر}: أي للإذكار والاتعاظ، لما تضمنه من الوعظ والوعد والوعيد.
{فهل من مدكر}، قال ابن زيد: من متعظ.
وقال قتادة: فهل من طالب خير؟ وقال محمد بن كعب: فهل من مزدجر عن المعاصي؟ وقيل: للذكر: للحفظ، أي سهلناه للحفظ، لما اشتمل عليه من حسن النظم وسلامة اللفظ، وعروه عن الحشو وشرف المعاني وصحتها، فله تعلق بالقلوب.
{فهل من مدكر}: أي من طالب لحفظه ليعان عليه، وتكون زواجره وعلومه حاضرة في النفس.
وقال ابن جبير: لم يستظهر شيء من الكتب الإلهية غير القرآن.
وقيل: يسرنا: هيأنا {القرآن للذكر}، كقولهم: يسر ناقته للسفر إذا رحلها، ويسر فرسه للغزو إذا أسرجه وألجمه، قال الشاعر:
وقمت إليه باللجام ميسرًا ** هنالك يجزيني الذي كنت أصنع

. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{اقتربت الساعة وانشق القمر}.
رُويَ أنَّ الكُفَّارَ سألُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم آيةً، فانشقَّ القمرُ. قال ابنُ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا: انفلقَ فلقتينِ فلقةٌ ذهبتْ وفلقةٌ بقيتْ. وقال ابنُ مسعودٍ رأيتُ حِراءَ بينَ فلقتَيْ القمرِ. وعنْ عثمانَ بنِ عطاءٍ عنْ أبيهِ أنَّ معناهُ سينشقُّ يومَ القيامةِ ويردُّه قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ وَيَقولواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} فإنَّه ناطقٌ بأنَّه قدْ وقعَ وأنَّهم قدْ شاهدُوا بعدَ مُشاهدةِ نظائرِه. وقرئ {وقَدِ انشقَّ القمرُ}. أي اقتربتِ الساعةُ وقدُ حصلَ منْ آياتِ اقترابِها أنَّ القَمرَ قدِ انشقَّ ومَعْنى الاستمرارِ الاطرادُ أو الاستحكامُ أيْ وإِنْ يَرَوا آيةً من آياتِ الله يُعرضُوا عنِ التأملِ فيها ليقفُوا على حقِّيتها وعلوِّ طبقتِها ويقولوا سحرٌ مطردٌ دائمٌ يأتِي به محمدٌ عَلى مرِّ الزمانِ لا يكادُ يختلفُ بحالٍ كسائرِ أنواعِ السحرِ، أو قويٌّ مستحكمٌ لا يمكنُ إزالتُه وقيلَ مستمرٌ: ذاهبٌ يزولُ ولا يَبْقى تمنيةً لأنفسِهم، وتعليلًا وهو الأنسبُ بغلوِّهِم في العِنادِ والمُكابرةِ ويؤيدُه ما سيأتِي لردِّه. وقرئ {وإنْ يُرَوا} على البناءِ للمفعولِ منَ الإراءةِ {وَكَذَّبُواْ} أي بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم وما عاينُوه مما أظهرَهُ الله تعالى على يدِه من المعجزاتِ {واتبعوا أَهْوَاءهُمْ} التي زيَّنها الشيطانُ لهم أو كذَّبُوا الآيةَ التي هيَ انشقاقُ القمرِ واتَّبعُوا أهواءَهُم وقالوا سحرَ القمرَ أو سحرَ أَعْيُننا والقمرُ بحالِه. وصيغةُ الماضِي للدلالةِ على التحققِ. وقوله تعالى: {وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ} استئنافٌ مسوقٌ لإقناطِهم عمَّا علَّقوا به أمانيَّهم الفارغةَ من عدمِ استقرار أمرِه عليهِ الصَّلاةُ والسلام حسبمَا قالوا سحرٌ مستمرٌّ ببيانِ ثباتِه ورسوخِه أي وكلُّ أمرٍ من الأمورِ مستقرٌّ أي مُنتهٍ إلى غايةٍ يستقرُّ عليَها لا محالةَ، ومن جُملتِها أمرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فسيصيرُ إلى غايةٍ يتبينُ عندَهَا حقِّيتُه وعلُّو شأنِه. وإبهامُ المستقَرِّ عليهِ للتنبيهِ على كمالِ ظهورِ الحالِ وعدمِ الحاجةِ إلى التصريحِ بهِ، وقيلَ: المَعْنى كلُّ أمرٍ من أمرِهم وأمرِه عليهِ الصَّلاةُ والسلام مستقرٌّ أي سيثبتُ ويستقرُّ على حالةِ خذلانٍ أو نصرةٍ في الدُّنيا وشقاوةٍ أو سعادةٍ في الآخرةِ. وقرئ بالفتحِ على أنَّه مصدرٌ أو اسمُ مكانٍ أو اسمُ زمانٍ أي ذُو استقرار أو ذُو موضعَ استقرار أو ذُو زمانِ استقرار، وبالكسرِ والجرِّ عَلى أنَّه صفة أمرَ، وكلُّ عطفٌ على الساعةُ أي اقتربتِ الساعةُ وكلُّ أمرٍ مستقرٌّ.
{وَلَقَدْ جَاءهُمْ} أي في القرآن. وقوله تعالى: {مّنَ الأنباء} أي أنباءِ القرونِ الخاليةِ أو أنباءِ الآخرةِ، متعلقٌ بمحذوفٍ هو حالٌ مما بعدَهُ أيْ وبالله لقد جاءهُم كائنًا من الأنباءِ {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} أي ازدجارٌ من تعذيبٍ أو وعيدٍ، أو موضعُ ازدجارٍ على أنَّ في تجريديةٌ والمَعْنى أنَّه في نفسِه موضعُ ازدجارٍ، وتاءُ الافتعالِ تقلبُ دالًا مع الدالِ والذالِ والزَّاي للتناسبِ وقرئ {مُزَّجَرٌ} بقلبِها زاء وإدغامِها {حِكْمَةٌ بالغة} غايتَها لا خللَ فَيها وهي بدلٌ منْ مَا أو خبرٌ لمحذوفٍ. وقرئ بالنصبِ حالًا منَها فإنَّها موصولةٌ أو موصوفةٌ تخصصتْ بصفتِها فساغَ نصبُ الحالِ عنها.
{فَمَا تُغْنِى النذر} نفيٌ للإغناءِ، أو إنكارٌ لهُ. والفاءُ لترتيبِ عدمِ الإغناءِ على مجيءِ الحكمةِ البالغةِ مع كونِه مظنَّة للإغناءِ وصيغةُ المُضارعِ للدلالةِ على تجددِ عدمِ الإغناءِ واستمرارِه حسبَ تجددِ مجيءِ الزواجرِ واستمرارِه، وما على الوجهِ الثانِي منصوبةٌ أي فأيُّ إغناء تُغني النذرُ وهو جمعُ نذيرٍ بمعنى المنذرِ أو مصدرٌ بمَعْنى الإنذارِ.
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} لعلمكَ بأنَّ الإنذارَ لا يُؤثرُ فيهم ألبتةَ {يَوْمَ يَدْعُو الداع} منصوبٌ بيخرُجونَ أو باذكُرْ. والدَّاعِي إسرافيلُ عليهِ السلام ويجوزُ أنْ يكونَ الدعاءُ فيهِ كالأمرِ في قوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} وإسقاطُ الياءِ للاكتفاءِ بالكسرِ تخفيفًا {إلى شيء نُّكُرٍ} أي منكرٍ فظيعٍ تنكرُه النفوسُ لعدمِ العهدِ بمثلِه وهو هَولُ القيامةِ وقرئ {نُكْرٍ} بالتخفيفِ ونكر بمَعْنى أنكر {خُشَّعًا أبصارهم} حالٌ من فاعلِ {يُخْرِجُونَ} والتقديمُ لأنَّ العاملَ متصرفٌ أي يخرجونَ {مّنَ الأجداث} أذلةً أبصارُهم من شدةِ الهولِ وقرئ {خاشعًا} والإفرادُ والتذكيرُ لأنَّ فاعلَه ظاهرٌ غيرُ حقيقيِّ التأنيثِ. وقرئ {خاشعةً} على الأصلِ، وقرئ {خُشَّعٌ أبصارُهم} عَلَى الابتداءِ والخبرِ على أنَّ الجملةَ حالٌ {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} في الكثرةِ والتموجِ والتفريقِ في الأقطارِ {مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع} مسرعينَ مادِّي أعناقِهُم إليهِ أو ناظرينَ إليهِ {يَقول الكافرون} استئنافٌ وقعَ جوابًا عمَّا نشأَ من وصفِ اليومِ بالأهوالِ وأهلِه بسوءِ الحالِ كأنَّه قيلَ فماذا يكونُ حينئذٍ فقيلَ يقول الكافرونَ {هذا يَوْمٌ عَسِرٌ} أي صعبٌ شديدٌ، وفي إسنادِ القول المذكورِ إلى الكفارِ تلويحٌ بأنَّ المؤمنينَ ليسُوا في تلكَ المرتبةِ من الشدةِ {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} شروعٌ في تعدادِ بعضِ ما ذُكِرَ منَ الأنبياءِ الموجبةِ للازدجارِ، ونوعُ تفصيلٍ لها وبيانٌ لعدمِ تأثرِهم بها تقريرًا لفحْوَى قوله تعالى: {فَمَا تُغْنِى النذر} أي فعلَ التكذيبَ قبلَ تكذيبِ قومِك قومُ نزحٍ وقوله تعالى: {فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا} تفسيرٌ لذلكَ التكذيبِ المبهمِ كما في قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقال رَبّ} الخ، وفيه مزيدُ تقريرٍ وتحقيقٍ للتكذيبِ وقيلَ:
معناهُ كذَّبوه تكذيبًا إثرَ تكذيبٍ كلَما خَلاَ منهم قرنٌ مكذبٌ جاءَ عقيبَه قرنٌ آخر مكذبٌ مثلُه.
وقيلَ: كذبتْ قومُ نوحٍ الرسلَ فكذبُوا عبدنَا لأنَّه من جُملتِهم وفي ذِكرِه عليه الصَّلاةُ والسلام بعنوانِ العبوديةِ مع الإضافةِ إلى نونِ العظمةِ تفخيمٌ له عليه الصَّلاةُ والسلام ورفعٌ لمحلِّه وزيادةُ تشنيعٍ لمكذبيهِ {وَقالواْ مَجْنُونٌ} أي لم يقتصرُوا على مجردِ التكذيبِ بل نسبُوه إلى الجنونِ {وازدجر} عطفٌ على قالوا أي وزُجِرَ عن التبليغِ بأنواعِ الأذيةِ وقيلَ: هو من جُملةِ ما قالوه أي هُو مجنونٌ وقد ازدجرتْهُ الجِنُّ وتخبطتهُ.
{فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى} أي بأَنِّي وقرئ بالكسرِ على إرادةِ القول {مَغْلُوبٌ} أي من جهةِ قومِي ما لي قدرةٌ على الانتقامِ منْهم {فانتصر} أي فانتقِمْ لِي منُهم وذلكَ بعد تقررِ يأسِه منُهم بعد اللَّتيا والتي فقد رُويَ أنَّ الواحدَ منْهم كان يلقاهُ فيخنقُه حتَّى يخِرَّ مغشيًا عليهِ ويقول اللهمَّ اغفرُ لقومِي فإنَّهم لا يعلمونَ {فَفَتَحْنَا أبواب السماء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ} منصبَ وهُو تمثيلٌ لكثرةِ الأمطارِ وشدةِ انصبابِها وقرئ {ففتَّحنا} بالتشديدِ لكثرةِ الأبوابِ {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُونًا} أي جعلنَا الأرض كُلَّها كأنَّها عيونٌ متفجرةٌ وأصلُه وفجرنَا عيونَ الأرضِ فغُيرَ قضاءً لحقِّ المقامِ {فَالْتَقَى الماء} أي ماءُ السماءِ وماءُ الأرضِ والإفرادُ لتحقيقِ أنَّ التقاءَ الماءينِ لم يكُنْ بطريقِ المجاورةِ والتقاربِ بلْ بطريقِ الاختلاطِ والاتحادِ وقرئ {المَاءانِ} لاختلافِ النوعينِ و{الماوانِ} بقلبِ الهمزةِ واوًا.